البكاء على أطلال الواصلية
من الذاكرة الملاحية المعطوبة
جريدة المستقبل العراقي / بغداد / في 10/4/2012
كاظم فنجان الحمامي
كان اسم قرية (الواصلية) على شط العرب يدفعني نحو مواصلة الغوص في بطون المراجع العربية والأجنبية للوقوف على سرها المرتبط بالتاريخ الفقهي والفلسفي للمدارس البصرية القديمة. .
تقع (الواصلية) بين (سيحان) و(الزيادية), بين مدرستين فكريتين, بين مدرسة عمرو أبو عثمان الجاحظ, ومدرسة (زياد بن الأصفر), في (سيحان) كان الجاحظ يجتمع بمريديه ضمن تشكيلات فرقة (الجاحظية), وهي من فرق المعتزلة, وفي (الزيادية) كان زياد يعد العدة لتأسيس الفرقة (الزيادية), وهي أيضا من فرق المعتزلة, فكلما نبغ في المعتزلة نابغ ترأس فرقة جديدة قائمة بذاتها, واعتزل مع جماعته, ونأى بهم في مكان ما على ضفاف شط العرب, فكانت تلك الضفاف الوارفة الظلال هي الوعاء الفكري, الذي شهد ولادة النهضة الثقافية, وهي الفردوس الطبيعي الذي وفر الملاذ الآمن للفرق الفلسفية, التي حملت راية التحدي في مواجهة الجمود والتشدد. .
كانت قرية (الواصلية) تتوسط بين قرية (سيحان) معقل فرقة (الجاحظية), وبين قرية (الزيادية) معقل (زياد بن الأصفر) وفرقته, ومن المرجح أن تكون قرية (الواصلية) معقلا لفرقة (الواصلية), وهم أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزّال. .
كان (واصل بن عطاء) حسن التصرف في القول, على الرغم من عاهته المؤكدة في نطق حرف الراء, لكنه كان يتجنب لفظ هذا الحرف, ويلجأ إلى سواه من الحروف, فاستطاع أن يتهرب منه بخفة ولباقة, فقال في مقدمة خطبته: (الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في علوِّهِ، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدّله اصطناعًا، فأحسن كلّ شيءٍ خلْقَه, وتمّم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيّته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه, تواضع كلّ شيءٍ لعظمته، وذلّ كلّ شيءٍ لسلطانه، ووسع كلّ شيءٍ فضله, إلى آخر الخطبة . . . ). .
انقطعت صلتنا اليوم بواصل, وانقطعت صلتنا بقرية الواصلية, وانقطعت صلتها بالفلاحة والملاحة. .
كانت الواصلية في السنوات, التي سبقت التوقيع على معاهدة (1975), هي المحطة الملاحية التي تضم منظومات الاتصال السلكية واللاسلكية لتأمين الاتصال مع الناقلات العملاقة المترددة على ميناء (عبادان), وهي المنطلق العراقي السيادي للمرشدين البحريين, الذين كانت تناط بهم مهمات إرشاد الناقلات النفطية من ميناء عبادان إلى البحر, ومن البحر إلى ميناء عبادان في رحلات مكوكية يومية, لتغطية احتياجات (35) رصيفا نفطيا, وتجدر الإشارة هنا إلى إن العراق كان يبسط نفوذه على الساحل الإيراني في شط العرب, ولا يحق للموانئ الإيرانية تحريك أي ناقلة أو سفينة أو زورق إلا بعد الاستئذان من العراق, والحصول منه على الإذن المسبق, على أن يتم التحريك بكادر عراقي متخصص, وكان المرشدون العراقيون هم الذي يشرفون على عمليات الإقلاع والإرساء ورمي المخطاف في موانئ (عبادان وخرمشهر وخسرو آباد), وكذا بالنسبة لعمليات الإبحار من والى الأرصفة. .
كان مرفأ الواصلية عبارة عن قاعدة عراقية متقدمة, تضم كتيبة ملاحية معززة بالكوادر التخصصية المدربة على تنفيذ المهمات المرتبطة بأرصفة عبادان, وهي التي تتكفل القيام بهذه الطقوس الملاحية اليومية على الوجه الأكمل, فتحقق للعراق أعلى الموارد المالية النظيفة بالعملة الصعبة, وتؤكد سيادته المطلقة على شط العرب من المنبع إلى المصب. .
وما أن دخلت معاهدة (1975) حيز التنفيذ حتى تقوقعت (الواصلية) على نفسها, وتخلت عن طقوسها الملاحية القديمة, وفقدت حيويتها, فتيبست مفاصلها, وتوقف قلبها عن الخفقان, وسقطت في دهاليز الإهمال, ولم تعد إلى سابق عهدها, لا إلى زمن (واصل), ولا إلى زمن التألق الملاحي العراقي بين (روكا) و(المعقل), ولا إلى زمن الازدهار الزراعي, حتى إن شط العرب نفسه لم يسلم على هويته العربية, ففقدها في (الجزائر) مباشرة بعد التوقيع على المعاهدة, التي تنازل فيها العراق عن نصف شط العرب لصالح إيران, فصار اسم الشط مذاك (أرفند رود) في التعاملات الإيرانية, ثم تفجرت براكين الحرب الثمانينية, فانطلقت من الواصلية أولى القذائف التي دمرت صهاريج النفط في (بواردة), فاحترق الشط كله من المنبع إلى المصب, وتقطعت رؤوس النخيل, فماتت واقفة بين خنادق المواجهات العسكرية الغاضبة. .
كانت أول زيارتي لها عام 1974 عندما كنت مرشدا بحريا متدربا, فوجدتها عبارة عن حديقة لبنانية الملامح, مزدانة بأزهار القرنفل والياسمين والنرجس, تتخللها باقات مشرقة من أزهار التوليب, ويسمونها بالفارسية (لالة), وتعني بالعراقية الدارجة المصباح. .
كانوا يجلبون لها أزهار التوليب من بستان (بواردة) المحاذي لعبادان, واسم (بواردة) يعني (ذو الوردة) لأنه استمد اسمه من الورود والأزهار, فهو في حقيقة الأمر (أبو وردة), على غرار التسميات البصرية الشائعة, من مثل: (أبو الخصيب), و(أبو الفلوس), و(أبو صخير). .
كنا نأتي إليها من وقت لآخر لنعبر منها إلى مرفأ عبادان, ومن ثم ننطلق بمراكبنا من هناك نحو البحر. رافعين العلم العراقي على سواري الناقلات الراسية على الضفة الإيرانية, فالمسطحات المائية العراقية في شط العرب تتمدد وتتسع إلى أبعد نقطة تبللها مياه المد العالي في الضفة الإيرانية. .
قبل بضعة أيام وقعت بيدي وثيقة تعود إلى عام 1917, تبين إن المرشدين البحريين العراقيين كانوا هم الذين يرشدون الناقلات القادمة والمغادرة من والى مرفأ عبادان, والوثيقة عبارة عن شهادة إرشاد للسفينة البخارية (باتيلا) موقعة بتاريخ 18/11/1917, بإمضاء المرشد البحري العراقي الحاج محمد الإدريسي, وهو والد المرشد البحري نوري الإدريسي, وجد المرشد البحري مضر الإدريسي.
كان مرفأ الواصلية يتألف من رصيف خشبي صغير, ومجموعة من الزوارق الخدمية, وسفينة إسناد (سفينة قطر) تتولى تقديم المساعدة في المناورات الملاحية, ومحطة لا سلكي لها شفرتها الخاصة بلغة المورس (YIS), وفيها مخيم يتألف من مجموعة من الغرف المؤثثة, ومطعم ومطبخ, ونادي ليلي, وترتبط بالشارع العام بطريق فرعي معبد بالإسفلت, وفيها مدرسة ابتدائية (المناهل), ومستوصف طبي, ومركز للشرطة, ورحبة صغيرة للسيارات. .
زارها الشاعر الكبير (بدر شاكر السياب), وكتب عنها مقالة نادرة, نشرتها مجلة (الموانئ), بعددها السابع والعشرين, الصادر في آذار 1962, بعنوان ((الواصلية جنةٌ صغيرةٌ في الصحراء)), ولم يعلم السياب في حينها إنها من ممتلكات (واصل بن عطاء), لكنه التقى هناك الكابتن أحمد محمد حسين السعد (العم أبو طلال) مدير مرفئها في الستينيات, وهو من الأسر العراقية, الذين احترفوا الملاحة, وتوارثوها, فتركوا بصماتهم على صفحات التاريخ الملاحي لشط العرب.
كان أبوه (الحاج محمد حسين) مرشدا بحريا بالوراثة, فسار الابن على نهج أبيه, والتحق عام 1934 بمصلحة الموانئ العراقية, ثم تدرج حتى صار مرشدا بحريا, ثم مديرا لمرفأ الواصلية, وانتهى به المطاف ضابطا للسيطرة في مكتب التنسيق المشترك, ثم ضابطا للسيطرة في مقر سلطة الموانئ قبل أن يحال إلى التقاعد, ولهذا الرجل ارتباطاته الوثيقة ببعض المرشدين البحريين, فهو من أقارب الكابتن الكويتي خلف أحمد عبد الله (زوج شقيقته), و المرشد البحري عبد الله علي السعد (زوج ابنته), ومن أقاربه أيضا الكابتن (عبد الله حمزة), والكابتن (محمد حمزة), والكابتن (جاسم محمد حمزة) والكابتن (طارق محمد حمزة), والكابتن (فاروق عبد الله حمزة). .
وفي نيتي التحدث بإسهاب عن الأسر, التي احترفت الملاحة وتوارثتها, جيل بعد جيل, في كتاب مصور, يحفظ تاريخ شط العرب, قبل أن تصاب ذاكرتنا الملاحية بالعطب.