إن قراءة الدعاء قبل قراءة القرآن الكريم حركة جيدة، وفي بعض المصاحف يوجد في الصفحات الأولى أدعية لأهل البيت عليهم السلام، فمن أجل فتح الأبواب يقرأ الإنسان الدعاء، وكأنه يقول: يا رب، افتح الغشاوة عن ذهني هذه الساعة، كما في بعض الأدعية: (اللهم!.. افتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك؛ برحمتك يا أرحم الراحمين).. وأفضل موضع لقراءة هذا الدعاء، هو عند قراءة القرآن، ولا نستبعد أبدا أن يكتشف الإنسان معان من القرآن الكريم، لم يكتشفها حتى كبار المفسرين.
إن الآيات الكريمة هذه في مقام بيان النعم الإلهية في عالم التكوين، هنالك نعم أنعم بها رب العالمين علينا في عالم الوجود.. وهذه النعم لها مظهر مادي، ولعل الهدف من ذكر هذه النعم الانتقال من نشأة الدنيا إلى ما وراء الطبيعة، فالمؤمن لديه هذه الخاصية: أن يحول الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة.. وفي عبارة عن الرسول (ص): (النظر في المصحف من غير قراءة عبادة، والنظر إلى البحر عبادة البحر...)؛ نحن نعرف أن النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى المصحف عبادة، ولكن البحر وجود مادي يستخرج منه ما يستخرج؛ فما قيمته؟.. قد يراد من ذلك أن ينتقل الإنسان من عالم النظر إلى الطبيعة، إلى ما وراء الطبيعة.. البعض يقول: أن أفضل صلاة له هي التي تكون في الطبيعة: عند غابة، أو بحيرة؛ لأنه عندما يصلي في هذه الغابة مع قطرات الندى، وأصوات الطيور، ويقول: لا إله إلا الله؛ فإنه يصاحب هذا الوجود الجميل.. طبعا رب العالمين شأنه أعظم من أن يحصر بجبل، أو بحيرة، أو بمنظر، أو بقمر، أو بشمس!.. ولكن العلماء يقولون: هذا يجعل الإنسان يتحفز، ويعيش حالة من حالات الفخر والغرور الإيجابي.
فإذن، إن النظر إلى السراج الوهاج، وإلى المطر النازل، والبحر الهادر.. كل ذلك من موجبات تعميق روح العبودية، والارتباط بالله سبحانه وتعالى.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا}.. إن المطر في حد نفسه معجزة إلهية، رغم أن حقيقة السحب أنها تتفاعل وتتكثف، ثم تأتي الرياح ثم البرق والرعد.. فعالم السحاب علم يدرس في الجامعات، عالم عجيب غريب!.. كتل الثلج التي بين السماء والأرض، رب العالمين ينزلها قطعا، ولو أنزلها دفعة واحدة لمات الناس.. ولكن بتكرار النظر أصبحنا لا نعيش هذا الإعجاز الكوني، وهذا اللطف الإلهي، ثم هذه المياه تتغلغل في الأرض، ثم تخرج مرة ثانية من هذه الينابيع التي نراها متدفقة؛ فيد اللطف الإلهية سارية في كل شيء.. رب العالمين يقول: إن هذا الذي ينزل عليكم، نحن أنزلناه، وإن كان من وراء السحاب، وفي سورة الواقعة آيات عجيبة في هذا الشأن!..
إن الذي يرى كل ما في الوجود من الله تعالى؛ يزداد ذكرا وشكرا لواهب هذه النعم.. مثلا: لو كان لديك جار يبعث كل يوم طبقا من الحلوى، فهذا الجار سوف لن تنساه.. وكذلك الذي ينظر إلى كل مظاهر الطبيعة على أنها من الله: المطر من الله، والزرع من الله، والذي يوقد نارا ليشوي لحما، فيتذكر قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}؟.. يتذكر هذه النار، ويتذكر هذا الطعام، ويرى بأن الله -عز وجل- هو الذي أطعمه هذا الطعام؛ يعيش حالة الشكورية وتذكر النعم الإلهية.
فإذن، أن نرى كل ما في الوجود منه -سبحانه وتعالى- هو الطريق إلى الإيمان.. وشعار الإسلام هو الشهادتان: الاعتراف بربوبية الله عز وجل، والاعتراف بنبوة نبيه.. ولكن هل تأملنا في معنى (لا إله إلا الله)؟.. لماذا هذه الكلمة تقلب الإنسان من الكفر إلى الإسلام؟.. وهنيئا لمن تشهد الشهادتين وكان كافرا، وبعد ساعات ذهب إلى ربه، ذهب إلى الجنة قطعا؛ لأنه بالشهادتين ذهب إلى ربه صافيا من كل درن!.. وهذا من لطف الإله على عبده، فلو كان الإسلام شرطه التفاعل والاعتقاد والبكاء؛ لكان ذلك صعبا، ولكن نطق الشهادتين بدون استهزاء أو خداع أو مزاح؛ يكفي أن يكون العبد مسلما.. بعض الدرجات العليا لو حصل عليها الإنسان قبل الموت بدقائق؛ لغيرت مجراه ولم يحتج إلى عمر طويل بعد ذلك.. فبعض الحقائق لنورانيتها وعظمتها، يكفي أن توجد في حياة الإنسان لثوان.. إذ يكفي أن يصل الإنسان إلى حقيقة هذا المعنى: أن لا يرى في الوجود مؤثرا إلا هو، فهذا معنى التوحيد الكامل.
إن الذي يشهد: أن لا إله إلا الله؛ يكون مسلما.. والذي لا يرى في الوجود مؤثرا إلا الله؛ يكون مؤمنا.. عندئذ رب العالمين يريه من آياته الكبرى، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيْهِ السَّلام) قَالَ: (أَبَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلا أَنْ يَجْعَلَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُونَ)؛ كي يتعرف المؤمن عليه.. أحدهم في ليلة من الليالي، اجتمعت عليه الهموم والغموم، إلى درجة أنه أصبح يحدث نفسه، وكان يقول: يا رب، يا إلهي!.. ما الحيلة؟.. فإذا به يسمع نداء يقول له: الحيلة هي ترك الحيلة؛ أي الأفضل هو ترك الأمر بيد الله.. ولكن بني آدم كدودة القز؛ كلما تبذل جهدا أكثر تتشرنق، وتصبح في شرنقة قاتلة.. فوّض الأمر لله كما فعل إبراهيم عليه السلام، وهذا معنى {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.
{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}.. بعد أن ذكر الله -عز وجل- مظاهر الطبيعة، والسراج الوهاج، يذكر الجنات والحب والنبات؛ كأنه يريد أن يقول لنا: إن كل هذه الحركة الكونية لكي تتكامل أنت يا بني آدم، وموعدنا معك يوم الفصل.. أي أن المفاهيم والأعمال في الدنيا مختلطة مع بعضها البعض، والإنسان لا يميز السبيل كما يجب.. نحن في الدنيا لم نستعمل هذا الميزان الإلهي، لذا لنحاول جميعا قلع العين الباطنية النفسانية الذاتية، ونجعل مكانها عينا إلهية برزخية، ترى الأمور بمقياس آخر.
إن هذا الحديث مستمد من حديث قرب النوافل، هذا الحديث عملة متداولة في سوق العارفين، يقول الحديث: عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه).. الواجبات هي طريق التكامل، أيهما أفضل: الفريضة أم النافلة؟.. الحب غير موجود في الفرائض، والقرب غير موجود بالنوافل، لماذا القرب في الفرائض والحب في النوافل؟.. هذا من الأبحاث الدقيقة في هذا المجال، فالحب شيء والقرب شيء آخر.. لو أن إنسانا خارج القصر الملكي، وأراد أن يتقرب إلى السلطان؛ عليه أن يجتاز الموانع.. فعندما يتحقق القرب تنتهي الحركة، ثم تبدأ الحركة الروحية الباطنية، وهو إيجاد علاقة باطنية بينه وبين من يحب.
وبعبارة أخرى: المتقرب إلى الله -عز وجل- له وجود مستقل، يرى في نفسه كيانا، يرى في نفسه وجودا.. يقول: أريد أن أصل هذا الوجود المحب المتميز؛ وهو الأنا إلى رب العالمين.. والمحب يذوب في محبوبه، ولا يرى لنفسه وجودا، وإلا ما عاد محبا، بل أصبح متقربا فقط.. والتقرب شيء، والحب شيء آخر.. إن الحل الأساسي؛ يكمن في تفريغ الفؤاد من كل شيء، وأجمل رواية في هذا المجال، هي رواية عن زينب بنت أمير المؤمنين (ع)، عندما كانت طفلة صغيرة، قالت: (أتحبنا يا أبه؟.. فأجابها أمير المؤمنين -عليه السلام- برأفة: بلى يا بنية.. فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن: حب الله، وحب الأولاد.. وإن كان ولابد؛ فالحب لله تعالى، والشفقة للأولاد).. والنبي الكريم يقول: (أقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحسنكم أخلاقا.. وأنا ألطفكم بأهلي)، رسول الله (ص) كان في قلبه ما كان من الحب الإلهي، ولكن كان هو ألطف الناس بأهله، وفي رواية تقول (الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم على الله؛ أنفعهم لعياله).