ان تكون غنياً . . بِاستغنائك
كثيراً ما يحضرني ذلك القول
الذي عَرّف به الراحل الكبير الدكتور ناصر حامد أبو زيد نفسه، حين قال "أنا
متصوّف، ثروتي الاستغناء". موضّحاً أنّ تصوّفه، هو بالمعنى الحياتي وليس
بالمعنى العرفاني، فهو يؤمن بأنّه كلّما استغنى اغتنى. لذا هو يقلّل دائمًا
من احتياجاته ، فتقلّ بذلك قدرة الآخرين على التحكّم فيه . حتى إنّه لا
يحتاج في النهاية سوى إلى حجرة وكتاب ومكتب وقلم . فالتصوّف بالنسبة إليه
نهج للحياة ، يضمن استقلاليّة الإنسان.
وهو ما يذكّرني بفلسفة أخي مراد ،
الذي على الرّغم من مهامه كموظّف كبير في الدولة, أراه زاهدًا في كلّ شيء،
غير معنيّ بشيء ، متعجّبًا لأمر الناس من حوله ، وهم يلهثون خلف ما هو
زائل.
مراد يستحقّ رواية في حدّ ذاته ، كنوع بشري مهدّد بالانقراض. فما
رأيت سواه يجاهد نفسه وكأنّه كلّ يوم في حساب. لعلّها جينات أبي ، هكذا
أقول عندما أعجز عن مجاراة منطقه.
كلّما حاولت الحياة غوايتي ، استعنتُ
على كمائنها بمجالسة أخي مراد ، الذي يملك ثقافة تراثيّة وأخرى معاصرة تكفي
استشهاداتها لإقناعي برأيه . ألجأ أيضاً إلى سيرة الكبار ممن عرفت ، أحدهم
ناصر حامد أبو زيد ، فأتأمّل في زهد مثقّف أدرك أنّ حرِّيَّته تكمن في
استغنائه, لا في رخائه. وأنّ لا سلطة لمبدع ترتهنه مؤسّسات ، باختلاق مزيد
من احتياجاته وامتيازاته ، بذريعة تكريمه أو الاعتراف بمكانته. بينما، ليس
التكريم سوى نوع مهذّب من أنواع التدجين ، واستعباد الضمائر بالإغداق.
وقبل حامد أبو زيد ، كان فولتير قد اكتشف أنّ المال والتكريم هما أكبر خطر على المبدع ، فهو القائل
" يموت الكاتب مختنقاً تحت باقات الورود".
==
أمّا ألبيرتو مورافيا ، فأذكر له نصيحة جميلة ، تصلح أيضًا لغير المبدعين تقول
"
إنّ على الإنسان ألاّ يكسب من المال أكثر ممّا يلزمه لحياة كريمة وميسورة .
ذلك أنّ المال ، إذا زاد على حدّه أنفق المرء عمره في إدارته. وإن قلّ عن
الحاجة ، أنفق عمره في السعي إلى كسبه.. وهو في الحالتين خاسر " .
إنّها حكمة أهديها خاصّة إلى الأثرياء.. الخاسرين ، الذين يهدرون عمرهم في مطاردة المال ، فلا يبقى لهم من وقت لإنفاقه .
في
ما يخصّ المبدع ، فإن القرش الزائد ، هو ذلك المكسب المُهلك ، الذي كلَما
زاد انخفض منسوب الحريّة لدى مكتسِِبهِ ، وتضاعفت قيود تبعيّته . لعلّ
مأساة المبدع كما مأساة الإنسان، تكمن في عجزه عن وضع سقف لاحتياجاته .
فالإنسان بطبعه يتمنى الحصول على ألف ، وعندما يحصل عليها يتمنى مائة ألف ،
وبعدها المليون ، وما يكاد يناله حتى يصبح هدفه الملاين ، بحيث يتحوّل إلى
مدمن مال ، في حاجة دائما إلى المزيد منه ، إلى حدّ يرتفع فيه شقاؤه بعلوّ
سقف أمنياته !